18 ـ وَتَرْجِــعُ الأَحْكَــامُ لليَقِيــنِ فَـلاَ يُزِيــلُ الشَّــكُّ لليَقِيِـــنِ
هـذه القاعـدة تشـير إلـى قاعـدة فقهيـة كليـة وهـي :
" اليقيـن لا يـزول بالشـك " .
( الأَحْكَــامُ ) : واحدهـا حُكـم وهـو فـي اللغـة : المنـع . تقـول : حكمـتُ الرجـل تحكيمًـا ، إذا منعتـه ممـا أراد ، قالـه الجوهـري فـي " الصِّحَـاح " .
والحكــم فـي الاصطـلاح هــو : إسـناد أمــر إلـى آخــر إيجابًـا أو سـلبًا 0 قالـه الجرجانـي فـي
" التعريفـات " ، ومثالـه فـي الإيجـاب : زيـد قائـم ، حيـث أثبـت القيــام لـزيـد 0 ومثـال السَّـلب : لـم يقـم زيـد ، حيـث نفيـت القيـام عـن زيـد (1) .
وقـد عَرَّفَـه الأصوليـون بأنـه خطــاب الله ـ تعالـى ـ المتعلـق بأفعـال المكلفيـن ؛ اقتضـاءً ـ أي طلبًــا ـ ، أو تخييـرًا ، أو وضعًـا (*) (2) .
( اليَقِيــنِ ) :
لغـة : العلـم وزوال الشـك . كـذا قـال الجوهـري (3) .
وقـال بعـض الأصوليـون : إن اليقيـن فـي اللغـة مأخـوذ مـن الاسـتقرار ، يُقـال : يقـن المـاء ، بمعنـى اسـتقر (4) .
وقيـل هـو الإدراك الجـازم الـذي لا تـردد فيـه (5) .
اصطلاحًـا : هـو حصـول الجـزم أو الظـن الغالـب بوقـوع الشـيء أو عـدم وقوعـه (3) .
------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد الفقهية / ص : 61 .
( 2 ) الدرة المرضية شرح منظومة القواعد الفقهية / ص : 57 .
( * ) الحكم الوضعي : هو خطاب الشرع بجعل أمرٍ ما علامة على أمر آخر .
والأحكام الوضعية خمسة هي :
السبب ، والشرط ، والمانع ، والصحة ، والفساد . الواضح في ... / ص : 48 .
( 3 ) منظومة القواعد ... / شرح : خالد بن إبراهيم الصقعبي .
( 4 ) منظومة القواعد الفقهية / شرح : سعد بن ناصر الشثري .
( 5 ) منظومة القواعد ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
وقيـل : اليقيـن فـي الاصطـلاح : طمأنينـة القلـب ، واسـتقرار العلـم فيـه (1) .
( الشَّــكُ ) :
لغـة : التـردد ؛ وهـو تجويـز أمريـن لا مزيـة لأحدهمـا علـى الآخـر (3) .
وقيــل يـراد بالشــك : التداخـل ؛ وذلك لأن الشـاك يتداخــل عنـده أمـران ، لا يسـتطيع الترجيـح بينهمـا (1) .
وقيـل الشـك هـو : مطلـق التـردد (2) .
اصطلاحًـا : هو اعتـدال النقيضيـن عنـد الإنسـان وتسـاويهما 0 قالـه الراغـب فـي " المفـردات " (4) .
وقيـل : يطلـق علـى مطلـق التـردد ، ويطلـق علـى الاحتمـال المتسـاوي الطرفيـن (2) .
ـ والمعنـى : أن الإنسـان إذا تحقـق مـن وجـود الشـيء ، ثم طـرأ عليـه الشـك فـي زوالـه ، فيرجـع إلـى الأصـل المتيقـنِ ، وهـو بقـاؤه واسـتمرارُه .
منظومة القواعد الفقهية / للسعدي / شرح : د 0 مصطفى كرامة مخدوم .
ولا تكـاد تلـك القاعـدة تخلـو مـن بـاب مـن أبـواب الفقـه ويـدل علـى صحـة هـذه القاعـدة عـدة أدلـة ترجـع إلـى الخبـر ، والإجمـاع ، والنظـر .
ü فأمـا الخبـر ، مـا رواه مسـلم فـي صحيحـه :
* فعـن سـعيد وعبَّـادِ بـنِ تميـمٍ ، عـن عمـهِ ، شُـكِيَ إلـى النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ الرجـلُ يُخيــلُ إليـه أنـه يجــدُ الشـيءَ فـي الصــلاةِ . قـال : " لا ينصـرف حتـى يسـمع صوتــًا ، أو يجـد
ريحـًا " .
صحيح مسلم . متون / ( 3 ) ـ كتاب : الحيض / ( 26 ) ـ باب : الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم
شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك / حديث رقم : 361 / ص : 93 .
ـ ففـي هـذا الخبـر : الحكـم ببقـاء الطهـارة وإن طـرأ الشـك ، لأن الطهـارة مُتيقَّـن منهـا ، وأمـا إذا
------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) منظومة القواعد الفقهية / شرح : سعد بن ناصر الشثري .
( 2 ) منظومة القواعد الفقهية / شرح : خالد بن إبراهيم الصقعبي .
( 3 ) الدرة المرضية شرح منظومة القواعد الفقهية / ص : 57 .
( 4 ) مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد الفقهية / ص : 61 .
تُيقِّـن مـن الحـدث الموجـب نقـض الطهـارة ـ نُقِضَـت الطهـارة ـ .
وهـذا أصـل فـي كـل أمـر قـد ثبـت واسـتقر يقينـًا ، فإنـه لا يرفـع حكمـه بالشـك .
* وعـن أبـي سـعيد الخُـدري ، قـال : قـال رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ :
" إذا شـك أحدكـم فـي صلاتـه فلـم يـدرِ كـم صلـى ؟ ثلاثـًا أم أربعـًا ؟ فليطـرح الشـكَّ ولْيبـنِ علـى مـا اسـتيقنَ ، ثـم يسـجدُ سـجدتين قبـل أن يُسَـلِّم " .
صحيح مسلم . متون / ( 5 ) ـ كتاب : المساجد ومواضع الصلاة / ( 19 ) ـ باب / حديث رقم : 571 / ص :137 .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 63 / بتصرف .
ü وأمـا الإجمـاع :
فحكــاه غيـر واحـد كالقرافـي ـ رحمه الله ـ فـي " الفــروق " ، وابـن دقيــق العيــد ـ رحمه الله ـ فـي
" إحكـام الإحكـام " .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 64 .
ü وأمـا النظـر :
فـلأن اليقيـن لا يغلبـه الشـك ألْبتـة ، حيـث إنـه قطـع بثبـوت الشـيء فـلا ينهـدم بالشـك .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 65 .
o فائـــدة :
ــــــــ
اعلـم وفقـك الله ـ أن قاعـدة : " اليقيـن لا يُـزال بالشـك " لهـا اعتبـار عنـد الاسـتدلال بالأدلـة ؛ إذ الأصـل فـي الألفـاظ أنهـا للحقيقـة ، وفـي الأوامـر أنهـا للوجـوب ، وفـي النواهـي أنهـا للتحريـم .
ولا يُخْــرَج بتلـك الأحكـام عـن أصولهـا الْمُتَيَقَنـة لاسـتدلال أو دليـل مشـكوك فيـه إمـا مـن جهــة
الثبـوت أو الدلالـة .
وقـد نبـه إلـى ذلـك العلائـي ـ رحمه الله ـ فـي كتابــه : " المجمـوع الْمُذْهـب " ، وقـال : " ومـن هـذا
الوجـه يمكـن رجـوع غالـب مسـائل الفقـه إلـى هـذه القاعـدة إمـا بنفسـها أو بدليلهـا " .
ومـن ثَـم يتبيـن أن القاعـدة الكليـة : " اليقيـن لا يـزال بالشـك " ، لهـا مـوردان (1) :
--------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) موردان : أي تطبق وتصب على شيئين .
الأول : الأدلـة الشـرعية ، عنـد إعمـال قاعـدة : " اسـتصحاب الأصـل " ، لأن الأصـل لـه حكـم اليقيـن .
الثانــي : أفعـال المكلَّـف ، عنـد اشـتباه أسـباب الحكـم عليـه 0 وهـذا المـورد هـو المقصـود أصالـةً مـن القاعـدة ، قالـه ابـن القيـم ـ رحمه الله ـ فـي : " بدائـع الفوائـد " .
وهـذا كلـه عندمـا يكـون للمشـكوك فيـه حـال قبـل الشـك ، فَتُسـتصحَب ولا ينتقـل عنهـا إلا بيقيـن ، وهـذا جـزم بـه الجمهـور ، ونـص عليـه ابـن القيـم فـي كتابـه السـابق .
قـال ابـن القيـم : فـي " بدائـع الفوائـد " : " ينبغـي أن يُعلـم أنـه ليـس فـي الشـريعة شـيء مشـكوك فيـه ألْبتـة ، وإنمـا يعـرض الشـك للمكلَّـف " . ا . هـ .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 66 .
أمثــلة تطبيقيــة علـى القاعـدة :
* إذا أكل الصائـم شـاكًّا في طلـوع الفجـر ، صح صومـه ، لأن الأصـل بقـاء الليـل حتى يتيقـن الفجـر .
أمـا إذا أكـل شـاكًّا فـي غـروب الشـمس ، لـم يصـح صومـه ، لأن الأصـل بقـاء النهـار ، فـلا يجـوز أن يأكـل مع الشـك ، وعليـه القضـاء ما لـم يعلـم أنـه أكـل بعـد الغـروب فـلا قضـاء عليـه حينئـذ .
* مـن شـك فـي حصـول الرضـاع بينـه وبيـن امـرأة أجنبيـة ، فيبـنِ علـى الأصـل المتيقَّـنِ ، وهـو كونُهـا أجنبيـة عنـه .
* مـن شـك فـي طـلاق امرأتـه ، فإنـه يبنـي علـى الأصـل المتيقـن ، وهـو بقـاء الزوجيـة .
منظومة القواعد ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
* مـن أتـم صلاتَـهُ وفـرغ منهـا ، ثـم شـك فـي زيـادة أو نقـص ، فهـذا الشـك لا يؤثـر ، فصلاتـه
تامـة لأن الأصـل التمـام ، ثـم طـرأ شـك ، فـلا يُعـوَّل عليـه لكـن مـن شـك أثنــاء الصـلاة فهـذا لـه حكـم آخـر مفصـل بكتـب الفقـه .
منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : عبيد الجابري / بتصرف .
ـ ضابــط القاعــدة :
هـذا الحكـم وهـو الرجـوع إلـى اليقيـن وتقديمـه علـى الشـك ، صحيـحٌ متجـهٌ إن كـان المعـارِضُ للأصـل المتيقَّـنِ ، هـو الشـك ، بمعنـى " الاحتمـال المتسـاوي الطرفيـن " ، فَيُرَجَّـحُ احتمـال البقـاء علـى احتمـال الـزوال .
وأمـا إن كـان المعـارِضُ للأصـلِ المتيقَّـنِ هـو الظـن ، بمعنـى " الاحتمـال الراجـح " ، فيجـري فيـه
الخـلافُ المعـروف فـي تعـارض الأصـل والغالـب .
والأقـرب ترجيــح الغالـب بدليـل وجـوب العمــل بالنيـة الظنيـة ، كشـهادة الرجليـن مـع أن الأصــل
بـراءة الذمـم .
وبدليـل عمـل النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بخبـر المـرأة ... فـي الرضـاع مـع كونـه خبـر واحـدٍ لا يفيـد إلا الظـن ، فتـرك بـه الأصـل ، وهـو عـدم الرضـاع .
والأصـل والغالـب إن تعارضـا فقـدِّم الغالـبَ وهـو المرتضـى .
وهـذا مـن بـاب ترجيـح القيـاس علـى التمسـك بالبـراءة الأصليـة ، كمـا هـو مذهـب الجمهـور ؛ لأن الظـن المسـتفاد مـن القيـاس الصحيــح أقــوى مـن الظــن المسـتفاد مـن الاسـتصحاب ـ أي اسـتصحاب البـراءة الأصليـة ـ ، والحكـمُ المسْـتَصحَبُ ، وإن كـان يقينًـا فـي أصلـه إلا أنـه ظنـيٌّ مـن جهـة بقائـه واسـتمراره ، فرجعـت المسـألةُ إلـى تعـارض الظنـون .
وإن كانـت هنـاك فـروع مسـتثناةٌ مـن القاعـدةِ ، تُذْكَــرُ فـي المطـوَّلات ، ( كقواعــد ) ابـن رجــب ،
( وأشـباه ) السـيوطي .
منظومة القواعد الفقهية / للسعدي / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم / بتصرف .
صحيح فقه السنة / ج : 2 / ص : 105 .
ـ قواعـد متفرعـة عـن هـذه القاعـدة :
* مـا ثبـت بيقيـن لا يرتفـع إلا بيقيـن .
* الأصـل بقـاء مـا كـان علـى مـا كـان .
والمعنـى : أن مـا ثبـت علـى حـال فـي الزمـن الماضـي ثبوتًـا أو نفيًّـا ، فإنـه علـى حالـه ولا يتغيـر مـا لـم يوجـد دليـل يغيـره ، لأن الاسـتصحاب فـي اللغـة : الملازمـة وعـدم المفارقـة .
* الأصـل بـراءة الذمـة :
وهـذا مأخــوذ مـن قولـه صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم : " البينــة علـى المدعـي ، واليميـن علـى المدعـى عليـه " .
سنن الترمذي [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 13 ) ـ كتاب : الأحكام عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ /
( 12 ) ـ باب : ما جاء في أن البينة على المدَّعِي واليمين على المدَّعَى عليه / حديث رقم : 1341 / ص : 316 / صحيح .
والمعنـى : القاعـدة المسـتمرة أن الإنسـان بـريء الذمـة مـن وجـود شـيء أو لزومـه ، وكونـه مشـغول الذمـة هـذا خـلاف الأصـل ، لأن المـرء يولـد خاليًـا مـن كـل ديـن أو التـزام أو مسـئولية ، وكـل شـغل لذمتـه بشـيء مـن الحقـوق إنمـا يطـرأ بأسـباب عارضـة بعـد الـولادة ، والأصـل فـي الأمـور العارضـة العـدم .
* الأصـل إضافـة الحـادث إلـى أقـرب أوقاتـه :
فلـو أن إنسـانًا اسـتيقظ مـن النــوم لمـا أراد أن يصلـي الظهــر وجـد فـي ثيابــه أثــر مَنِـيّ ـ
( للاحتـلام ) ـ فأشـكل عليـه هـل هـذا من نومـه بعـد صـلاة الفجـر فتكـون صـلاة الفجـر صحيحـة ؟ أم أنـه مـن الليـل فيلزمـه الاغتسـال ثـم إعـادة صـلاة الفجـر ؟ . نقـول : إذا لـم يتأكـد ولـم تقـم قرائـن ، فالأصـل إضافـة الحـال إلـى أقـرب أوقاتـه ، وعلـى هـذا نحكـم بأنـه مـن نومـه بعـد صـلاة الفجـر ، وبِنَـاءً علـى ذلـك نحكـم بصحـة صـلاة الفجـر .
منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : خالد بن إبراهيم الصقعبي .
19 ـ والأَصْـلُ فِـي مِيَاهِنَـا الطَّهَـارَةُ والأَرْضِ والثِّيَــابِ والحجــارة
( الأَصْـلُ ) : يُطلـق علـى معـانٍ متعـددة ، كالدليـلِ ، والراجـح ، والقاعـدة المسـتمرة ، والحالـة الأولـى المسـتصحَبةِ ، والمـراد هنـا الأخيـرُ .
لمـا كانـت الأحكــام ترجــع إلـى أصولهـا حتـى يتيقـن زوال الأصــل كمـا سـبق بيانـه ، لـذا احتيـج إلـى معرفـة أصــول أشـياء إذا شـك فيهـا رجــع إلـى أصولهـا ، وهـي أصـول تابعـة لقاعـدة ( اليقيـن لا يـزول بالشـك ) وتُمثـل جانـب اليقيــن منهـا ـ أي مـن القاعــدة ـ لـذا ذكرهـا
الناظـم عقــب هـذه القاعـدة .
منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم / بتصرف .
الأربعـوذكـر المؤلـف فـي هـذه القاعـدة مجموعـة أصـول تحـت أصـل : ( الأصـل فـي الأعيـان أو فـي الأشـياء الطهـارة ) :
فقـال : والأصـل فـي مياهنـا الطهـارة والأرض والنبــات والحجـارة ، وذِكــر هـذه الأشـياء
ة لايـراد بـه التخصيـص والحصـر ، بـل المـراد التمثيـل ، وإلا فالأصـل فـي سـائر الأشـياء الطهـارة حتـى
يَثبـت خـلاف ذلـك بالدليـل أو القرينـة .
منظومة القواعد ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم / بتصرف .
فالميـاه كلهـا : البحـار ، والأنهـار ، والآبـار ، والعيـون ، وجميـع مـا تحتـوي عليـه الأرض مـن :
التـراب ، والأحجـار ، والسـباخ (1) ، والرمـال ، والمعـادن ، والأشـجار ، وجميـع أصنـاف الملابـس ، كلهـا طاهـرة ، حتـى يتيقـن زوال أصلهـا بِطُـرُوء النجاسـة عليهـا .
ويخـرج مـن الملابـس المصنـوع مـن غيـر طاهـر ، كجلـود السـباع والكـلاب والخنازيـر .
رسالة القواعد الفقهية / للسعدي / ص : 22 / بتصرف .
وهـذه القاعـدة مرتبـة علـى القاعـدة السـابقة ، ولكـن مـن تأمـل مـا ذكرنـاه سـابقًا مـن الفـرق بيـن القاعـدة الفقهيـة والضابـط الفقهـي ، يجـد أن هـذه القاعـدة أقـرب إلـى الضابـط الفقهـي منهـا إلـى القاعـدة الفقهيـة ، فهـي ضابـط فقهـي وليسـت قاعـدة فقهيـة .
معنــى ذلـك : أنـه لمـا تأصـل فـي الشـريعة أن الميــاه والثيـاب والأرض والحجــارة الأصـل فيهـا الطهــارة ، كـأن هـذا التأصيـل يـدل علـى أنـه هـو المتيقـن ، وعـدم طهــارة هـذه الأشـياء شـكٌّ يحتـاج إلـى دليـل ، فـلا يُصـار إليـه حتـى يأتـي دليـل يـدل علـى خـلاف الأصـل .
ففقـه هـذا الضابـط يسـد بـاب الوسـوسـة الـذي أُبتلـي بهـا كثيـر مـن النـاس ، فالأصـل فـي المـاء والأرض والثيـاب والحجـارة ؛ الطهـارة .
فبعـض النـاس يبنـي عبادتـه علـى أوهـام ويقـول هـذا مـن بـاب الاحتيـاط فـي العبـادة ، فنقـول : إن الأصـل فـي المـاء ـ مثـلاً ـ الطهـارة مـا لـم يتبيـن للإنسـان النجاسـة بقرينـة .
منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : خالد بن إبراهيم الصقعبي .
o أدلــة طهــارة هـذه المذكــورات :
* الأصـل فـي الميـاه الطهـارة لقولـه تعالـى :
{ ... وَأَنزَلْنَـا مِـنَ السَّـمَاءِ مَـاءً طَهُـوراً } . سورة الفرقان / آية : 48 .
* ..... سـمع أبـا هريـرة ـ رضي الله عنه ـ يقـول : جـاء رجـل إلـى رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فقـال : يـا رسـول الله ! إنَّـا نركـب البحــر ، ونحمـل معنـا القليـل مـن المـاء ، فـإن توضأنـا بـه عطشـنا ، أفنتوضـأ بمـاء البحـر ؟ . فقـال رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ " هـو الطهـور مـاؤه ،
------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) السباخ : هو رَوْث مأكول اللحم .
الحِـلّ ميتتـه " .
سنن ابن ماجه [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 1 ) ـ كتاب :
الطهارة / ( 38 ) ـ باب : الوضوء بماء البحر / حديث رقم : 386 / ص : 85 / صحيح .
فالمـاء مثـلاً الـذي لا نعلـم فيـه دليــلاً علـى طهارتـه ، ولا علـى نجاسـته ، فإننـا نحكـم بقاعــدة الأصـل .
* والأصـل كذلـك طهـارة الأرض لقولـه تعالـى :
{ ... فَلَـمْ تَجِـدُواْ مَـاءً فَتَيَمَّمُـواْ صَعِيـداً طَيِّبـاً ... } . سورة النساء / آية : 43 .
قـال رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قـال : " فُضِّلْـتُ بأربـعٍ : جُعِلـتُ أنـا وأمتـي فـي الصـلاةِ كمـا تَصُـفُّ الملائكـةُ ، وجُعــل الصعيـدُ لـي وَضــوءًا وجُعِلَـتْ لـيَ الأرضُ مسـجدًا وطَهــورًا ، وأُحلَّـت لـيَ الغنائـم " .
رواه الطبراني عن أبي الدرداء . وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع ... /
الهجائي / ج : 2 / حديث رقم : 4219 / ص : 777 .
* والأصـل كذلـك طهـارة الحجـارة :
فعـن عائشـة ـ رضي الله عنها ـ قالـت : إن رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قـال : " إذا ذهـب أحدكـم إلـى الغائـط فليذهـب معه بثلاثـة أحجـار يسـتطب ، فإنهـا تُجـزئ عنـه " .
سنن أبي داود [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 1 ) ـ كتاب : الطهارة / ( 21 ) ـ
باب : الاستنجاء بالأحجار / حديث رقم : 40 / ص : 13 / حسن .
ـيـ فالأصـل فـي هـذه الأشـياء الطهـارة فـلا يقـول قائـل : مـا دليلـك علـى طهـارة هـذا المـاء ، أو طهـارة هـذه الأرض ؟ .
فالأصـل فـي كـل هـذا الطهـارة . ولاً نخـرُج عـن الأصـل إلا بنـص أو بينـة 0 فـلا يقـول قائـل : هـذا المـاء مـا أدراك لعـل أحـد قـد بـال فيـه ، أو لعـل كلـب وَلَـغَ فيـه ، لعـل لعـل ... لا يصلـح ، بـل لعــل هـذه محتاجــة بينـة ، فأنـت مطالــب بإثبــات مـا ادعيتـه ببينــة وإلا فاسـتصحاب البــراءة الأصليـة (1) ، فالأصـل فـي كـل حـادثٍ عدمـه حتـى يتحقـق 0
منظومة القواعد الفقهية / شرح : سعد بن ناصر الشثري / بتصرف .
------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) سبق الكلام عن البراءة الأصلية في : المبحث الثالث / المصدر السابع : الاستصحاب / ص : 108 .
20 ـ والأَصْـلُ فِـي الأَبْضَـاعِ واللحـومِ والنَّفْــسِ والأمـــوالِ للمَعْصُــومِ
21 ـ تَحْريمُهـا حَتـى يَجِـيءَ الحِــلُّ فَافْهَــمْ هَـــدَاكَ اللهُ مـا يُمَّـــلُّ
ـ هـذه القاعـدة عكـس القاعـدة السـابقة ، فالقاعـدة السـابقة ذُكـر ـ فيهـا ـ أن الأصـل فـي الميـاه والأرض والثيـاب والحجـارة ؛ الطهـارة حتـى يج
بمعنـى أن المتيقــن أن هـذه الأشـياء محرمـة فـلا يجــوز اسـتعمالها حتـى يجـيء دليـل ناقـض يبيـح هـذه الأشـياء .
منظومة القواعد الفقهية / شرح : خالد بن إبراهيم الصقعبي .
فكمـا أن الأصـل فـي بعـض الأشـياء الحِـلّ ، كذلـك الأصــل فـي بعـض الأشـياء الأخـرى التحريـم . لـذا ذكـر المؤلـف فـي هذيـن البيتيـن أشـياء الأصـل فيهـا التحريـم حتـى يُتَيقـن الحِـلّ .
( الأبضــاع ) : جمـعٌ ، مفـرده بُضـعٌ ، ويُطلـق علـى الفــرج والجمـاع والتزويـج ، والمـراد هنـا : الأول ، وقيـل : الثانـي ، وبينهمـا تـلازم .
( الأمـوال ) : جمـعُ مـالٍ ، وهـو كـل ما يُنتفـعُ به ، سُـمِّي مـالاً ؛ لأن النفـوس تميـل إليـه طبعًـا (1) .
( المعصـوم ) : هـو المسـلمُ والذِّمـيُّ ، أُطلـق عليهمـا لفـظ ( المعصـوم ) لعصمـة دمهمـا ، وأموالهمـا شـرعًا ، وفـي هـذا التعبيـر إشـارة علـى أن منـاط الحكـم (2) هـو العِصْمَـةُ .
( مـا يُمَـلّ ) : أي : مـا يُملـى عليـك .
منظومة القواعد ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
ـ ضابـط تطبيقــي :
مـن ضوابـط هـذه القاعـدة : إذا امتـزج ( أو اجتمـع ) التحليـل بالتحريـم ـ فـي هـذه المذكـورات ومـا كـان أصلـه التحريـم ـ غُلِّـب جانـب التحريـم علـى التحليـل فـإذا اختلطـت محرَّمـة بنسـب أو رضـاع بنسـوة محصـورات ، حـرم عليـه نكـاح إحداهـن مـادام لـم يتيقـن أيتهـن المحرَّمـة .
الدرة المرضية شرح منظومة ... / ص : 64 / بتصرف .
ـ فالأصـل فـي الأَبْضَـاع الحُرمـة ، فمـن اسـتباح بُضـع امـرأة فعليـه أن يخرجـه مـن هـذا الأصـل
------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) طبعًا : أي بطبعها .
( 2 ) مناط الحكم : أي عِلة الحكم .
بيقيـن ، فالأصـل أنهـا حـرام عليـه حتـى يثبـت لـه بيقيـن أنهـا حِـل لـه ، وذلـك بأحـد سـببين : إمـا بالـزواج الصحيـح ( أي زواج لا يشـوبه أي مبطـلات مثـل الرضاعـة أو الانشـغال بـزوج آخــر ، ... ) ، وإمـا أن تكـون مِلْـك يمينـه بيقيـن ( مثــلاً لا يكـون وطأهـا أبيـه ... ) . فيكـون الأصــل هنـا فـي حقـه حِـل الـوطء لتوفـر أسـباب الحِـلّ بيقيـن ، وتصبـح القاعـدة حِـل الـوطء فـي أي وقـت ولا يحـرم ذلـك إلا بسـبب متيقـن لإخراجـه مـن هـذا الأصـل 0 فعندمـا يعـرض عـارض كالحيـض ، نقـول هـذا خـارج عـن الأصـل ، فيحـرم الـوطء ، وإذا زال العـارض عُدنـا إلـى الأصـل وهـو الحِـلّ .
دليــل ذلــك : قولـه تعالـى :
{ وَالَّذِيـنَ هُـمْ لِفُرُوجِهِـمْ حَافِظُــونَ * إِلاَّ عَلَـى أَزْوَاجِهِــمْ أوْ مَـا مَلَكَـتْ أَيْمَانُهُـمْ فَإِنَّهُـمْ غَيْـرُ مَلُومِيـنَ * فَمَـنِ ابْتَغَـى وَرَاء ذَلِـكَ فَأُوْلَئِـكَ هُـمُ الْعَـادُونَ } . سورة المؤمنون / آية : 5 ـ 7 .
ـ وكذلـك الأصـل فـي اللحـوم التحريـم : فالأصـل فـي الحيـوان المطعـوم التحريـم ، إلا مـا ذكـاه المسـلم أو الكتابـي ، فالأصـل فيما يذبحـه المسـلم أو الكتابـي الحِـل حتـى يثبـت خـلاف ذلـك بيقيـن .
قـال تعالـى : { ... وَطَعَـامُ الَّذِيـنَ أُوتُـواْ الْكِتَـابَ حِـلٌّ لَّكُـمْ وَطَعَامُكُـمْ حِـلُّ لَّهُـمْ ... } .
سورة المائدة / آية : 5 .
ولكـن مـن يعتقـد أنـه لا يحـل إلا اللحـم الـذي يذبحـه بيـده أو بيـد مـن يعـرف عقيدتـه وصلاحـه مـن المسـلمين ، فهـذا لا يصـح .
فمـا ذبحـه غيـر المسـلم أو غيـر الكتابـي فهـو محـرم ، ومـا صُعِـق ، أو خُنـق ، أو ... ، فهـو محـرم حتـى لـو كـان هـذا فعـل مسـلم أو كتابـي .
حُكـم اللحـوم المسـتوردة : إذا كانـت مـن بـلاد الكفـار والمجـوس ، فالأصـل فيهـا الحرمـة 0 أمـا إذا
كانـت مـن بـلاد المسـلمين أو أهـل الكتـاب ( اليهـود والنصـارى ) ويعـرف عنهـم أنهـم يذبحونهـا بالطريقـة الشـرعية ، فالأصـل فيهـا الحِـلّ ، أمـا إذا عُـرف عنهـم أنهـم يخنقونهـا ، أو يصعقونهـا أو أي طريقـة أخـرى غيـر الذبـح الشـرعي ، إذن فهـي غيـر مذكـاة ، وحكمهـا الحُرمـة علـى المسـلمين بشـرط أن يكـون هنـاك يقيـن وليـس مجـرد شـك فـي أنهـا غيـر مذكـاة .
شرح القواعد الفقهية ।
س : إذا شـك فـي توفـر شـروط الإباحـة فـي ذبيحـة المسـلم كالتسـمية 0 مـا حكـم الأكـل منهـا ؟ ! .
الجـــواب : لا يعتبـر ولا يُلتفَـت إلـى الشـك فـي وجـود الشـرط ، وإن كـان الأصـل فـي الشـروط عـدم وجودِهـا ، إلا أن هـذا الأصـلَ عارَضـه أصـلٌ آخـر ، وهـو كـون الأصـل فـي أفعـال المسـلمين
الصحـة ، ووقوعهـا علـى الوجـه الشـرعيِّ .
بالإضافـة إلـى معارضـة الغالـب ، وهـو وجـود الشـرط صحيحًـا .
* عـن عائشـة ـ رضي الله عنها ـ أن قومًـا قالـوا للنبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إن قومًـا يأتونـا باللحـم لا نـدري أَذُكِـرَ اسـمُ اللهِ عليـه أم لا ؟ . قـال صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم :
" سَـمُّـوا عليـه أنتـم وكلـوه " . قالـت : وكانـوا حديثـي عهـدٍ بالكفـر .
صحيح البخاري . متون / ( 72 ) ـ كتاب : الذبائح والصيد / ( 21 ) ـ باب : ذبيحة
الأعرابِ ونحوِهم / حديث رقم : 5507 / ص : 663 .
ويُسـتثنى مـن ذلـك بـاب الصيـد ، فـإذا وقــع الشـكُّ فـي الْمُبِيـح وهـو توفــر الشـروط ، فـلا يحــل الأكـل منـه .
* فعـن الشَّـعْبِي قـال : سـمعتُ عَـدي بـن حاتـم ـ رضي الله عنه ـ قـال : سـألتُ رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عـن المِعْـرَاض فقـال : " إذا أصبـتَ بحّـدِّه فكُـلْ ، فـإذا أصـابَ بِعَرْضِـهِ فَقَتَـلَ فإنـه وَقِيـذٌ فـلا تأكـل " . فقلـتُ : أُرْسِـلُ كلبـي ، قـال : " إذا أرسـلتَ كلبَـكَ وسـميتَ فكُـلْ " . قُلـتُ : فـإن أكَـلَ قـال : " فـلا تأكـل فإنـه لـم يُمْسِـكْ عليـكَ إنمـا أمسـكَ علـى نفسِـهِ " . قلـت أُرسِـلُ كلبـي فأجـدُ معـه كلبًـا آخَـرَ ، قـال : " لا تأكـل فإنـك إنمـا سـميتَ علـى كلبـك ولـم تُسـمّ علـى آخـر " .
صحيح البخاري . متون / ( 72 ) ـ كتاب : الذبائح والصيد / ( 2 ) ـ باب : صيد المِعْرَاضِ / حديث رقم : 5476 / ص : 660 .
فمنـع صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم الأكـل عنـد وجـود الشـكِّ فـي قاتلـه .
وعـن عـدِيّ بـنِ حاتـمٍ قـال : سـألتُ رســول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عـن الصيـد ؟ قـال : " إذا رميـتَ سـهمَكَ فَاذكـر اسـم اللهِ ، فـإن وجدْتَـهُ قـد قَتَـلَ فكُـلْ ، إلا أن تجِـدَهُ قـد وقـع في مـاءٍ ، فإنـك
لا تـدري ، المـاءُ قتلَـهُ أو سـهمُكَ " .
صحيح مسلم . متون / ( 34 ) ـ كتاب : الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان / ( 1 ) ـ باب : الصيد
بالكلاب المعلَّمة / حديث رقم : 7 ـ ( 1929 ) / ص : 505 .
فمنـع صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم الأكـل مـع الشـكِّ فـي شـرطه ، فلـو كـان الأصـل الإباحـة لمـا منـع مـن ذلـك .
وعلـى هـذا لـو ضـرب الإنسـان صيـدًا وأصـاب جناحـه ثـم وجـده قـد سـقط فـي مـاء ومـات ، الآن مـوت هـذا الصيـد محتمـل أنـه مِـن رميـه ، ويحتمـل أنـه قـد مـات غرقًـا ، فـلا يحـل ، لأنـه اجتمـع فيـه جانـب حظـر وجانـب إباحـة ، فيقـدم جانـب الحظـر . فعلـى هـذا اجتمـع سـبب مبيـح
وسـبب محـرِم ، فيقـدم السـبب المحـرم .
منظومة القواعد ... / شرح : خالد بن إبراهيم الصقعبي .
ـ وكذلـك الأصـل في المعصـوم ـ وهـو : المسـلم ، أو المعاهـد : ـ تحريـم دمـه ، ومالـه ، وعرضـه ،
فـلا تبـاح إلا بحـق ، فـإذا زال الأصـل ـ : إمـا بِـرِدَّةِ المسـلم ، أو زِنَـا المُحْصَـن ، أو قتـل نفـس ، أو نقـض المعاهـد العهـد ـ حـل : لأولـي الأمـر والحكـام قتلـه .
ومـن فـروع هـذه القاعـدة ، مـا اسـتدل بـه عمـر بـن الخطـاب علـى أبـي بكـر الصديـق حيـن أراد أبـو بكـر قتـل مانعـي الزكـاة .
فقـال لـه عمـر كيـف تسـتبيح قتالهـم ؟ ـ فعمـر هنـا مسـتند علـى أن الأصـل فـي قتالهـم الحرمـة .
فاحتـاج أبـو بكـر إلـى نـص لإخـراج هـؤلاء عـن البـراءة الأصليـة ليقاتلهـم ، فقـال أبـو بكـر : والله لـو منعـوني عقـالاً (1) أو عناقًـا (2) كانـوا يؤدونـه لرسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لقاتلتهـم علـى منعـه ، والـزكاة قرينـة الصـلاة فـي كتـاب الله ، وهـي حـق المـال .
* فعـن أبـي هريـرة ، قـال : لمـا توفـي رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ واسْـتُخْلِفَ أبـو بكـر بعـده ، وكفـر مـن كفـر مـن العـرب ، قـال عمـر بـن الخطـاب لأبـي بكـر : كيـف تقاتـل النـاس وقد قـال رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : " أُمـرتُ أن أقاتـل النـاسَ حتـى يقولـوا : لا إله إلا الله ، فمـن قـال : لا إله إلا الله فقـد عَصَـمَ منـي مالَـهُ ونفسَـهُ إلا بحقـه ، وحسـابه علـى الله ؟ " .
فقـال أبـو بكـر : والله ! لأقاتلـنَّ مـن فـرَّق بيـن الصـلاة والـزكاة ، فـإن الـزكاة حـقُّ المـالِ ، والله ! لـو منعونـي عِقـالاً كانـوا يؤدونـه إلـى رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لقاتلتُهـم علـى منعـه .
فقـال عمـر بـن الخطـاب : فـوالله ! مـا هـو إلا أن رأيـتُ الله عـز وجـل قـد شـرح صـدر أبـي بكـر للقتـال ، فعلمـتُ أنـه الحـق .
صحيح مسلم . متون / ( 1 ) ـ كتاب : الإيمان / ( 8 ) ـ باب : الأمر بقتال الناس حتى يقولوا :
لا إله إلا الله محمد رسول الله ، و ... / حديث رقم : 32 ـ ( 20 ) / ص : 20 .
وكذلـك إذا جنـى الإنسـان جنايـة توجـب قطـع عضـو ، أو توجـب عقوبـة أو مـالاً : حـل منـه بقـدر مـا يقابـل تلـك الجنايـة ، فـإذا سـرق مسـلم فوجـب قطـع يـده ، فتقطـع يـده بنـص يخرجـه عـن
-----------------------------------------------------------------------------
( 1 ) عقالاً : هو الحبل الذي يعقل به البعير .
( 2 ) عناقًا : أي الأنثى من أولاد المعز أو الغنم .
الأصـل وهـو قولـه صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم ( إلا بحقهـا ) ، فهـو هنـا غيـر معصـوم لأنـه فعـل مـا يسـتباح بـه عصمتـه التـي كانـت ، وهـي البـراءة الأصليـة فـإذا أقيـم عليـه الحـد عـادت إليـه البـراءة الأصليـة مـرة أخـرى ، فهـو يحــل منـه بقــدر ما يقابــل تلـك الجنايـة فقـط ، فـلا يحـل منـه سـوى قطـع يـده فقـط .
وكـذا إذا اسـتدان وأبـى الوفـاء . فيؤخـذ مـن مالـه بقـدر ذلـك الحـق ، سـواء كـان الدِّيْـن لله ، أو لخلقـه .
وأمـا اللحـوم ؛ فقـد سـبق تفصيـل ذلـك .
وأمـا النفـس والمـال للمعصـوم :
* عـن ابـن عبـاس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ خطب النـاس يـوم النحـر فقـال : " يـا أيهـا النـاسُ أيُّ يـومٍ هـذا ؟ " . قالـوا : يـومٌ حـرام . قـال : " فـأيُّ بلـدٍ هـذا ؟ " . قالـوا : بلـدٌ حـرام . قـال : " فـأيُّ شـهرٍ هـذا ؟ " . قالـوا : شـهرٌ حـرامٌ . قـال : " فـإن دماءكـم وأموالكـم وأعراضكـم عليكـم حـرامٌ كحرمـة يومكـم هـذا فـي بلدكـم هـذا فـي شـهركم هـذا " فأعادهـا مِـرَارًا ثـم رفـع رأسـه فقـال : " اللهـم هـل بلغـت ؟ " .
قـال ابـن عبـاس ـ رضي الله عنهما ـ : فوالـذي نفسـي بيـده إنهـا لوصيتُـهُ إلـى أمتـه : " فليبلـغ الشـاهدُ
الغائـبَ ، لا تَرجِعـوا بعـدي كفـارًا يضـربُ بعضكـم رِقـاب بعـض " .
صحيح البخاري . متون / ( 25 ) ـ كتاب : الحَج / ( 132 ) ـ باب : الخطبة
أيام منى / حديث رقم : 1739 / ص : 196 .
22 ـ والأَصْـلُ فـي عَادَاتِنَـا الإِباحَــةْ حَتــى يَجِـيءَ صَــارِفُ الإِباحَـــةْ
23 ـ وَلَيْـسَ مَشْـرُوعًا مِـنَ الأُمــورْ غَيــرُ الــذي فِـي شَـرْعِنَا مَذْكُــورْ
وهـذان الأصـلان ذكرهمـا شـيخ الإسـلام رحمه الله فـي كتبـه ، وذكـر أن الأصـل الـذي بنـى عليـه الإمـام أحمـد مذهبـه : أن العـادات الأصـل فيهـا الإباحـة ، فـلا يحــرم منهـا إلا مـا ورد تحريمـه ، وأن الأصـل فـي العبـادات أنـه لا يشـرع منهـا إلا مـا شـرعه الله ورسـوله .
( عَادَاتِنَـا ) : مأخـوذ مـن العَـوْد أو المعـاودة ، وهـي تكـرار الشـيء .
واختلفـت عبـارات الفقهـاء فـي حـد العـادة وتعريفهـا ، ومـن ذلـك :
أنهـا مـا اسـتقر فـي الأنفـس السـليمة والطبائـع المسـتقيمة مـن المعامـلات ، قالـه ابـن حجـر ـ رحمه الله ـ فـي الفتـح .
ومـن ثَـمَّ يتبيـن أن العـادات ترجـع إلـى جنـس المعامـلات ، وهـي نوعـان : معاملـة مـع النفـس ، ومعاملـة مـع الخلـق .
( صـارف الإباحـة ) : أي الصـارف ـ مـن الحرمـة إلـى الإباحـة ـ بدليـل شـرعي .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 75 / بتصرف .
قـال الشـيخ ... السـعدي فـي رسـالته / ص : 24 :
فالعـادات هـي ما اعتـاد النـاس مـن : المآكـل ، والمشـارب ، وأصنـاف الملابـس ، والذهـاب ، والمجـيء ، والكـلام ، وسـائر التصرفـات المعتـادة . ا . هـ .
واعلـم ـ رحمـك الله ـ أن الناظـم ـ رحمه الله ـ عنـى بالبيتيـن السـابقين قاعدتيـن كليتيـن :
* فأمـا القاعـدة الأولـى : فهـي : " الأصـل فـي العـادات والمعامـلات الإباحـة والحِـل .
ودل علـى صحـة ذلـك :
قولـه تعالـى : { هُـوَ الّـَذِي خَلَـقَ لَكُـم مَّـا فِـي الأَرْضِ جَمِيعـاً ... } . سورة البقرة / آية : 29 .
فهـذا يـدل علـى أنـه خلـق لنـا مـا فـي الأرض جميعـه ، لننتَفـع بـه علـى أَيّ وجـه مـن وجـوه الانتفـاع .
وقولـه تعالـى : { قُـلْ مَـنْ حَـرَّمَ زِينَـةَ اللهِ الَّتِـيَ أَخْـرَجَ لِعِبَـادِهِ وَالْطَّيِّبَـاتِ مِـنَ الـرِّزْقِ ... } .
سورة الأعراف / آية : 32 .
فأنكـر سـبحانه علـى مـن حـرم شـيئًا مـن الزينـة والطيبـات دون بُرهـانٍ منـه سـبحانه .
ولقولـه صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم " أنتـم أعلـم بأمـر دنياكـم " .
* فعـن أنـس ، أن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مـر بقـوم يلقِّحـون ، فقـال : " لو لـم تفعلـوا لصلُـحَ ، قـال : فخـرج شـيصًا ، فمـر بهـم صلـى الله عليـه وعلى آله وسـلم فقـال : " ما لنخلكـم ؟ " . قالـوا : قلـت كـذا وكـذا .
قـال صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم : " أنتـم أعلـم بأمـر دنياكـم " .
صحيح مسلم . متون / ( 43 ) ـ كتاب : الفضائل / ( 38 ) ـ باب : وجوب
امتثال ما قاله شرعًا ، ... / حديث رقم : 141 ـ ( 2363 ) / ص : 607 .
ووجـه الدلالـة : أن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ردّ الأمـر فـي التعامـل فـي الزراعـة ـ وهـي مـن أمـور الدنيـا ـ إلـى الخلـق ، وجعلـه ليـس مـن جنـس الشـرع الـذي يتوقـف فيـه حتـى يأتـي الأمـر مـن الـرب سـبحانه .
واتفـق العلمـاء علـى هـذا الأصـل ، فحكـاه غيـر واحـد ، كالنــووي فـي " المجمـوع " ، والموفـق فـي
" المغنـي " .
وليعلـم أن المعامـلات والعـادات باقيـة علـى الأصــل مـا لـم تخالـف أصـلاً شـرعيًا ، أو يأتـي الصـارف الشـرعي لذلـك ، ومن ذلـك : " شـرب الخمـر " ، فهـو مـن جنـس العـادات التـي حرمهـا الـرب سـبحانه .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 76 .
ـ وعلـى هـذه القاعـدة ، لـو رأيـت رجـلاً يفعـل شـيئًا ـ [ مـن المعامـلات والعـادات ] (1) ـ فقلـت لـه : هـذا حـرام . فسـيقول لـك : أيـن الدليـل علـى تحريـم هـذا الشـيء ؟ . فحينئـذ أنـت المطالـب بالدليـل علـى تحريـم هـذا الشـيء .
القواعد الفقهية / العثيمين / ص : 31 .
ـ فالأصــل فـي العـادات والمعامـلات الإباحـة ، فـلا يحْــرُمُ منهـا شـيء إلا مـا دل عليـه الدليـل مـن الكتـاب أو السـنة أو الإجمـاع أو القيـاس الصحيـح .
وكـل مـن حـرم شـيئًا مـن ذلـك طولـب بالدليـل السَّـالم مـن المعـارضِ الراجـح ، ولا يُطالَـبُ المبيـحُ
بالدليـل ، لأنـه مسـتمسـك بالأصـل .
منظومة القواعد ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
لأن الأصـل فـي عاداتنـا الإباحـة حتـى يجـيء صـارف الإباحـة .
فالأصــل فـي العبـادات المنـع والتوقـف حتـى يُعْلَـم دليــل ، فـلا عبـادة إلا بدليـل . فلابـد أن نعبـد الله علـى بصيـرة 0 قـال تعالـى :
{ قُـلْ هَـذِهِ سَـبِيلِي أَدْعُـوا إِلَـى اللهِ عَلَـى بَصِيـرَةٍ أَنَـا وَمَـنِ اتَّبَعَنِـي ... } .
سورة يوسف / آية : 108 .
* وأمـا القاعـدة الثانيـة : فهـي : أن الأصـل فـي العبـادات الحظـر والمنـع .
--------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) ما بين المعكوفتين [ ] ---> تصرف .
ومعنـى ذلـك هـو أن لا يعتقــد النـاس فـي شـيء أو فـي فعــلٍ أو قــولٍ أنـه عبـادة ، حتـى يأتـي خطـاب الشـارع بذلـك .
· قـال شـيخ الإسـلام ابـن تيميـة فـي مجمـوع الفتـاوى ( 31 / 35 ) :
" بـاب العبـادات والديانـات والتقربـات متلقـاة عـن الله ورسـوله ، فليـس لأحـدٍ أن يجعـلَ شـيئًا عبـادة أو قربـةً ؛ إلا بدليـل شـرعي " . ا . هـ .
ـ وعلـى هـذا جـرى السـلف الصالـح ـ رضي الله عنهم ـ مـن الصحابـة والتابعيـن :
* فعـن نافـعٍ أن رجـلاً عطـسَ إلى جنـب ابـن عمـرَ ، فقـال : الحمـد لله ، والسـلامُ علـى رسـول الله ،
قـال ابـن عمـر : وأنـا أقـول الحمـد لله والسـلام علـى رسـول الله ، وليـس هكـذا علمنـا رسـولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، علمنـا أن نقـول : " الحمـد لله علـى كـل حـال " .
سنن الترمذي [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / كتاب : الأدب عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم /
( 2 ) ـ باب : ما يقول العاطس إذا عطس / حديث رقم : 2738 / ص : 616 / حسن .
* وعـن سـعيد بـن المسـيِّب : أنـه رأى رجـلاً يصلـي بعـد طلـوع الفجـر أكثـر مـن ركعتيـن ، يكثـر فيهمـا الركـوع والسـجود ، فنهـاه ، فقـال : يـا أبـا محمـد ! يُعذبُنـي الله علـى الصـلاة ؟ ! . قـال لا ، ولكـن يُعذبُـك علـى خـلاف السـنة .
رواه البيهقي في السنن الكبرى ، وصحح سنده : الشيخ علي حسن عبد الحميد في : عِلم أصول البدع / ص : 71 .
فالله خلـق الخلـق لعبادتـه قـال تعالـى :
{ وَمَـا خَلَقْـتُ الْجِـنَّ وَالإِنـسَ إِلاَّ لِيَعْبُـدُونِ } . سورة الذاريات / آية : 56 .
وَبَيَّـنَ سـبحانه فـي كتابــه ، وعلى لسـان رسـوله العبـادات التـي يُعْبَـدُ بهـا ، وأَمـر بإخلاصهـا لـه ، فمـن تقـرب بهـا لله مخلصـًا ، فعملـه مقبـول ، ومـن تقـرب لله بغيرهـا ، فعملـه مـردود ، كمـا قـال صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم :
" مَـنْ عَمِـلَ عَمَـلاً لَيْـسَ عَلَيْـهِ أَمرُنـا فَهُـوَ رَدٌّ " .
صحيح مسلم . متون / ( 30 ) ـ كتاب : الأقضية / ( 8 ) ـ باب : نقض الأحكام
الباطلة ورد محدثات الأمور / حديث رقم : 18 ـ ( 1718 ) / ص : 448 .
وصاحبـه (1) داخـل فـي قولـه تعالـى :
------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) صاحبه : أي صاحب العمل الذي ليس عليه أمرنا .
{ أَمْ لَهُـمْ شُـرَكَاء شَـرَعُوا لَهُـم مِّـنَ الدِّيـنِ مَـا لَـمْ يَـأْذَن بِـهِ اللهُ ... } .
سورة الشورى / آية : 21 .
وبيـان هـذا الحديـث : أن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قيـد قبـول العبـادة بأخذهـا عنـه ، وصدورهـا منـه صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم ، فاعتبـار غيـر مـا أتـى بـه صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم مـن العبـادات ، اعتبـار مـردود علـى صاحبـه .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 77 / بتصرف .
فهـذا الأصـل ينفعـك فيمـا إذا رأيـت مـن يتعبـد عبـادة ، فأنكـرت عليـه . فقـال : أيـن الدليـل علـى إنكـارك ؟ . قـل : أيـن الدليـل علـى فعلـك ؟ .
[ فالـذي يقـوم بالعبـادة هـو المطالَـب بالدليـل على عبادتـه ] (1) .
القواعد الفقهية / العثيمين / ص : 33 / بتصرف .
فـلا يجـوز للإنسـان أن يتعبـد لله عـز وجـل بعبـادة ، إلا إذا ورد دليـل مـن الشـارع بكـون تلـك العبـادة مشـروعة ، ولا يجـوز لنـا أن نختـرع عبـادات جديـدة ونتعبـد الله ـ عـز وجـل ـ بهـا ، سـواء عبــادة
جديـدة فـي أصلهـا ، ليسـت مشـروعة ، أو نبتـدع صفــة فـي العبــادة ليسـت واردة فـي الشـرع ،
أو نخصـص العبـادة بزمـان أو مكـان . وأدلـة ذلـك : قولـه تعالـى :
{ قُـلْ إِن كُنتُـمْ تُحِبُّـونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِـي يُحْبِبْكُـمُ اللهُ ... } . سورة آل عمران / آية : 31 .
{ ... وَاتَّبِعُـوهُ لَعَلَّكُـمْ تَهْتَـدُونَ } . سورة الأعراف / آية : 158 .
وقولـه تعالـى :
{ لَقَـدْ كَـانَ لَكُـمْ فِـي رَسُـولِ اللهِ أُسْـوَةٌ حَسَـنَةٌ ... } . سورة الأحزاب / آية : 21 .
وقولـه تعالـى :
{ أَمْ لَهُـمْ شُـرَكَاء شَـرَعُوا لَهُـم مِّـنَ الدِّيـنِ مَـا لَـمْ يَـأْذَن بِـهِ اللهُ ... } .
سورة الشورى / آية : 21 .
وقولـه تعالـى :
------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) ما بين المعكوفتين [ ] ---> تصرف .
فهـذه القاعـدة قاعـدة عظيمـة ، تحصـل بهـا حمايـة الشـريعة مـن التحريـف والتبديـل .
منظومة القواعد ... / شرح : سعد بن ناصر الشثري .
=================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق